لعلك توافقني قارئي العزيز أن معرفتنا بالرب الإله لايمكن أن تكون من نتاج العقل البشري ، ولو إعتقدنا يوماً أننا قد عرفنا الله بعقولنا، فحتماً سنكتشف ضألة هذا الإله الذي إستطاعت عقولنا المحدودة أن تحتويه.
إذاً كيف نعرفه - تبارك اسمه- وكيف تكون لنا علاقة حقيقية معه، إلا بإستقبال إعلانه عن ذاته.
وكيف نتواصل معه ونستقبل إعلانه العظيم عن ذاته، بدون الإيمان،
الإيمان الذي لا يتعارض مع العقل ولكنه يسمو فوقه. الإيمان الذي به نفهم (عبرانيين11: 3
فالله هو النور الذي لا نراه إلا بنوره، نور الأعلان الذي نقبله بالإيمان
ولقد ثفضل الله وتنازل ليتكلم إلينا معلناً ذاته، فوحدانية الله ونوع الوحدانية التي تليق به لهي من الحقائق الأولية في الإعلان الإلهي،
وهي الحقيقة التي لا بد أن يسلم بها كل عاقل ذو منطق وذوق سليم.
فالتعدد في الكائنات لازمً حيث الضعف وعدم البقاء، وأما الكمال والسرمدية في الله فيقتضي الوحدانية، حيث عدم المحدودية في القدرة والعلم، والسيادة والسلطان والتواجد
ولقد اعلن الله في كتابه المقدس حقيقة أنه الواحد الذي لا اله غيره.
ففي العهد القديم نقرأ في سفر التثنية:
("إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ". ( تثنية 6: 4
وفي سفر أشياء: هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ الْجُنُودِ: «أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي. (أشعياء 44: 6)
وأيضاً: أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ.. ( أشعياء 45: 5)
أَخْبِرُوا. قَدِّمُوا. وَلْيَتَشَاوَرُوا مَعاً. مَنْ أَعْلَمَ بِهَذِهِ مُنْذُ الْقَدِيمِ أَخْبَرَ بِهَا مُنْذُ زَمَانٍ؟ أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ. ( أشعياء 45: 21- 22)
وفي العهد الجديد نقرأ في الأناجيل :
فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. ( مرقس 12: 29- 30)
وهنا يصادق المسيح على كتب العهد القديم و على إعلان الوحدانية فيها.
وأيضاً في الرسائل يقرر الرسول بولس بالروح القدس:
لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. (رومية 3: 30)
رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ. (أفسس 4: 5-6)
لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، (1تيموثاوس2: 5)
ويقرر يعقوب في رسالته:
أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!
(يعقوب2: 19)
نوع وحدانية الله
لكن أي نوع من الوحدانية هي وحدانية الله؟ هل هي وحدانية مجردة، تجرد الله من صفاته -وقد عظمت وتجلت ودلت على جقيقة وجوده ؟
أم وحدانية مطلقة؟
و لو كان كذلك فثمه سؤال يفرض نفسه: ما الذي كان يفعله الله الواحد الأزلي قبل خلق السماء والأرض والملائكة والبشر؟إذ لم يكن أحد سواه، هل كان يتكلم ويسمع ويحب؟ أم كان صامتاً وفي حالة سكون؟
إن قلنا أنه لم يكن يتكلم ويسمع ويحب، إذاً فقد طرأ تغيير على الله - لأنه قد تكلم إلى الآباء بالأنبياء، وهو اليوم سامع الصلاة إذ هو السميع المجيب،
كما أنه يحب إذ أنه الودود.
نعم إن قلنا إنه كان ساكناً لا يتكلم ولا يسمع ولا يحب ثم تكلم وسمع وأحب فقد تغيّر؛ والله جل جلاله منزه عن التغيير والتطور.
إنها حقاً معضلة حيرت المفكرين و الفلاسفة، وجعلتهم يفضلون عدم الخوض فيها. فكيف لعقولهم المحدودة أن تسبر أغوارها أو أن تعرف جوهر الله. أما الكتاب المقدس، وهو أعلان الله عن ذاته، فلقد عرفنا منه ما خفي على كل فلاسفة البشر وحكمائهم، وهو أن وحدانية الله ليست وحدانية مجردة أو مطلقة. بل هي وحدانية جامعة مانعة –
جامعة لكل ما هو لازم لها، ومانعة لكل ما عداه.
لكن كيف عرفنا وحدانية الله الجامعة؟
يتكلم الكتاب عن الله تارة بإسلوب المفرد لأن الله واحد، ومرة باسلوب الجمع لأن وحدانيته جامعة، ولايخفى علينا أن الجمع ليس للتعظيم ، وإلا لما تكلم الكتاب عن الله بالمفرد إطلاقاً.
ففي العهد القديم نقرأ:
(تكوين1: 26) وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا».
(تكوين3: 22) وَقَالَ الرَّبُّ الالَهُ: «هُوَذَا الانْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.».
(تكوين11: 7) هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لا يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ».
(أشعياء6: 8) ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: «مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» فَأَجَبْتُ: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي».
و في العهد الجديد نقرأ:
(يوحنا3: 11) اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا.
لكن ماذا تجمع وحدانية الله؟ أنها تجمع كل مستلزمات الالوهية، كل مايلزم قيام كائن إلهي. جامعة لإقانيم اللاهوت، فالكتاب يعلن أن الله واحد في ثلاث أقانيم .وكلمة أقنوم، ليست كلمة عربية، بل سريانية، تدل على" من له تمييز عن سواه بغير انفصال عنه".
وهكذا أقانيم اللاهوت؛ فكل أقنوم، مع أن له تميز عن الأقنومين الآخرين، لكنه غير منفصل عنهما.. وبذلك كان يمارس الله صفاته في الأزل بين أقانيمه فهو منذ الأزل وإلى الأبد كليم وسميع، محب ومحبوب، ناظر ومنظور ... دون أن يكون هناك شريك معه، ودون احتياجه- جلت عظمته- إلى شئ أو شخص في الوجود لإظهار تلك الصفات ، إذ أنه - نظراً لكماله - مكتفٍ في ذاته بذاته.
لكن لكي نتأكد أن إعلان الله الواحد في ثالوث أقانيمه هو إعلان أصيل، دعنا نسأل: هل هناك ذكر للأقانيم في العهد القديم؟
الإجابة نعم فعن الآب والابن نقرأ:
(مزمور 2: 7- 12)
إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ. قَالَ لِي: [أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.
اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ.
قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ.
(أمثال 30: 4)
مَن صَعِدَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ الرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ الْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ الأَرْضِ؟ مَا اسْمُهُ وَمَا اسْمُ ابْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟
و عن الروح القدس بإعتباره الله :
(ايوب 33: 4) رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي.
أن كان الأمر كذلك ، فهل هناك ذكر للثلاث أقانيم معاً في العهد القديم؟ الإجابة نعم ففي (أشعياء 48: 16)
تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا هَذَا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ الْبَدْءِ فِي الْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ.
وأيضا في أشعياء 61: 1)
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ.
وهذا مأقتبسه المسيح حينما قرأ السفر في مجمع الناصرة في لوقا 4 ، قائلاً لسامعيه
«إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ». (لوقا 4: 21)
وطبعاً يذكر العهد الجديد الثلاث أقانيم معاً فمثلاً:
(لوقا 1: 35) فَأَجَابَ الْمَلاَكُ: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.
(لوقا 3: 22-23) وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُوَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ بِكَ سُرِرْتُ!».
(متى28: 19) فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.
(1كورنثوس 13: 14) (2Co 13:14) نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ.
و لكن هل قال الكتاب عن كل أقنوم أنه الله؟ نعم فالكتاب يعلن أنالآب هو الله
(1بطرس 1: 2) بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ.
والابن هو الله
(عبرانيين 1: 8، 10) وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: «كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ.
والروح القدس هو الله
أعمال 5: 3 ، 4) فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا حَنَانِيَّا لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ الْحَقْلِ؟أَلَيْسَ وَهُوَ بَاقٍ كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هَذَا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ».
ولا يسعنا أمام جود هذا الإله العظيم الذي سرت مشيئته أن يعلن لنا ذاته، بل أن يعطينا نصيباً في مقاصده الأزلية في ابنه الحبيب، لايسعنا إلا أن نسجد، ونعبد مخبرين بأفضال نعمته.